الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل
.تفسير الآية رقم (16): القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [16].{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي: تحدِّث به نفسه، وهوما يخطر بالبال. وقوله تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وقد جعل ذلك القرب أتم من غاية القرب الصوريّ الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام؛ إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه.قال الشهاب: تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم، لتنزّهه عن القرب المكاني، إما تمثيلاً، وإما إطلاق السبب وإرادة المسبب؛ لأن القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العادة. والمعنى: أنه تعالى أعلم بأحواله- خفيّها وظاهرها- من كل عالم. وقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية، فهي أشد من اتصال ما اتصل به من الخارج، وخص هذا لأن به حياته، وهو بحيث يشاهده كل أحد. والحبل: العرق، شبه بواحد الحبال، فإضافته للبيان أو لامية، من إضافة العام للخاص. فإن أبقى الحبل على حقيقته، فإضافته كلجَيْن الماء.تنبيه:تأول ابن كثير الآية على غير ما تقدم بجعل {نَحْنُ} كناية عن الملائكة، وعبارته: يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. قال: ومن تأوله على العلم، فإنما فرَّ لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى اللهُ وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه يقلُّ: وأنا أقرب إليه، وإنما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} كما قال في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85]، يعني: ملائكته. وكما قال تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن، بإذن الله عز وجل. وكذلك الملائكة أقربُ إلى الإنسان من حبل الوريد، بإقدار الله جلَّ وعَلا لهم على ذلك. فللملَك لمَّةٌ من الإنسان كما أن للشيطان لمَّة، ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.ثم أيد ابن كثير رحمه الله ما ذكره بما ورد في الآية بعدها. والوجه الأول أدق وأقرب، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم، مع التعريف بجلالة المقام الربانيّ ما لا يخفى حسنه.وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط، بل له ولِما تقدم أولاً، كما أن إيثار: نحن على: أنا لا يحسم ما نفاه؛ لاحتمال إرادة التعظيم بـ: {نحن}، كما هو شائع، فلا يتم له ذلك. نعم! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيماً للملك؛ لأنه بأمره تعالى وبإذنه، ولكن لا ضرورة تدعو إليه، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة. وقد عنى رحمه الله بمن فهم الحلول والاتحاد مَن قال في تفسير الآية- كالقاشاني- ما مثاله: وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه؛ لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقيّ، ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود، من حيث هو وجود، ولولاه لكان عدماً صِرفاً ولا شيئاً محضاً. انتهى كلام القاشاني، ولا يفهم من ذلك حلول ولا اتحاد بالمعنى المتعارف؛ لأن لهؤلاء اصطلاحاً معروفاً، وهم أوَّلُ من يتبرَّأ من الحلول والاتحاد، كما أوضحت ذلك مع برهان استحالتهما في كتاب دلائل التوحيد الذي طبع بحمد الله من أمد قريب، فارجع إليه واستغفر لمصنِّفه.أقول: رأيت ابن كثير بعدُ، مسبوقاً بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية، فقد أوضح ذلك رحمه الله في كتابه شرح حديث النزول: ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلاً، بل قُربُه الذي في القرآن خاصٌّ لا عام، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فهو سبحانه قريب ممن دعاه، وكذلك ما في الصحيحين، عن أبي موسى الأشعريّ، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال: «أيها الناس! اربَعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدِكم من عُنقِ راحلتِه». فقال: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم» لم يقل: إنه قريب إلى كل موجود. وكذلك قول صالح عليه السلام {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61]، ومعلوم أن قوله: {قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} مقرون بالتوبة والاستغفار. أراد به قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود. وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال: مجيب لكل موجود، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربُه سبحانه وتعالى، وأسماء الله المطلقة- كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب- لا يجب أن تتعلَّق بكل موجود، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه، واسمه العليم لمَّا كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلَّق بكل شيء.وأما قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فالمراد به قربه إليه بالملائكة، وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف، قالوا: ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة. وقد قال طائفة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} بالعلم، وقال بعضهم: بالعلم والقدرة والرؤية. وهذه الأقوال ضعيفة، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عامٍّ من كل موجود، حتى يحتاجوا أن يقولوا: بالعلم والقدرة، ولكن بعض الناس لمَّا ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية. وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في الآية {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4]: هو معهم بعلمه مع علوِّه على عرشه. وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين، لم يخالفهم فيه أحد.ثم قال: ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك أنه قال: هو فوق عرشه، وهو قريب من كل شيء، بل قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].وقد روى ابن أبي حاتم بسنده أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقريب ربُّنا فنناجيه، أم بعيدٌ فنناديه؟ «فسكت النبي صلى الله عليه وسلم»، فأنزل الله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية. ولا يقال في هذا: قريب بعلمه وقدرته، فإنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، وهم لم يشكّوا في ذلك ولم يسألوا عنه، وإنما عن قُربِه إلى مَن يدعوه ويناجيه، فأخبر أنه قريب مجيب.وطائفة من أهل السنة تفسر القُرْب في الآية والحديث بالعلم؛ لكونه هو المقصود، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل مقصوده، وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول بإنه قريب من كل شيء، بمعنى العلم والقدرة، فإن هذا قد قاله بعض السلف وكثير من الخلف، لكن لم يقل أحد منهم: إن نفس ذاته قريب من كل موجود، وهذا المعنى يقرُّ به جميع المسلمين، من يقول: إنه فوق العرش، ومن يقول: إنه ليس فوق العرش.ثم قال: وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارئ جلَّ وعلا قريبة من وريد العبد ومن الميت. ولمَّا ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة فسَّروا ذلك بالعلم والقدرة، كما في لفظ المعية. ولا حاجة إلى هذا، فإن المراد بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي: بملائكتنا، في الآيتين، وهذا بخلاف المعية، فإنه لم يقل: ونحن معه، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد، وأخبر أنه ينبئهم يوم القيامة بما عملوا، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض، وهو نفسه الذي استوى على العرش، فلا يجعل لفظ مثل لفظ، مع تفريق القرآن بينهما.ثم قال: وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لا يجوز أن يراد به مجرد العلم، فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال: إنه أقرب إليه من غيره، بمجرد علمه به، ولا بمجرد قدرته عليه. ثم إنه سبحانه عالم بما يُسَرُّ من القول وما يجهر به، وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيصه حبلَ الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه، فإن حبل الوريد قريب إلى القلب، ليس قريباً إلى قوله الظاهر، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه. قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم سياقُ الآية، فإنه قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فأخبر أنه يعلم وَسواسَ نفسه.ثم قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فأثبت العلم، وأثبت القرب، وجعلهما شيئين، فلا يجعل أحدهما هو الآخر، وقيد القرب بقوله {إِذْ يَتَلَقَّى} الآية.وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذاتِ الربِّ من حبل الوريد، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله، فهذا في غاية الضعف؛ وذلك أن الذين يقولون: إنه في كل مكان، وإنه قريب من كل شيء بذاته، لا يخصون بذلك شيئاً دون شيء، ولا يمكن مسلماً أن يقول: إن الله قريب من الميت دون أهله، ولا: إنه قريب من حبل الوريد دون سائر الأعضاء. وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم، وهو عندهم في جميع بدن الإنسان، وهو في أهل الميت، كما هو في الميت، فكيف يكون {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} إذا كان معه ومعهم على وجه واحد؟ وهل يكون أقرب إلى نفسه من نفسه، وسياق الآيتين يدل على أن المراد هو الملائكة!، فإنه قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى} [16- 17] الآيتين. فقيَّد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقي المتلقيين، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان، كما قال: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} [ق: 18] الآية. ومعلوم أنه لو كان قرب ذاتٍ لم يخصَّ ذلك بهذا الحال، ولم يكن لذكر القعيدين: الرقيب والعتيد معنى مناسب. وكذلك قوله في الآية الأخرى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83- 85]، فإن هذا إما يقال: إذا كان هناك من يجوِّز أن يبصر في بعض الأحوال، لكن نحن لا نبصره، والرب تعالى في هذا الحال لا يراه الملائكةُ ولا البشر. وأيضاً فإنه قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال. وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل: هي في مكان، أو قيل: قريبة من كل موجود، لا يختص بهذا الزمان والمكان والأحوال، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء، ولا يجوز أن يراد قرب الربّ الخاص، كما في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} فإن ذاك إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبَده، وهذا المحتضر قد يكون كافراً وفاجراً، أو مؤمناً ومقرباً، ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 88- 94]. ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصُّه الربُّ بقُرب منه دون من حوله، وقد يكون حوله قوم مؤمنون، وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]، وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]، وقال تعالى: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]، وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11].ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وهذا كقوله سبحانه: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 3]، وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]، وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17- 19]، فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه دلَّ على أن المراد أنه سبحانه بجنوده وأعوانه من الملائكة، فإن صيغة: نحن يقولها المتبوع المطاع المعظَّم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم، وهو خالقهم وربُّهم، فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه، وملائكته تعلم، فكان لفظ: نحن هنا هو المناسب، وكذلك قوله: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فإنه سبحانه يعلم ذلك، وملائكته يعلمون ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا هَمَّ العبدُ بحسَنةٍ كُتبت له حسنة، فإن عمِلها كتبت له عشرُ حسنات، وإذا هَمَّ بسيِّئةٍ لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، وإن تركها لله كتبت له حسنة». فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة، وليس ذلك من علمهم الغيب الذي اختص الله به.ثم قال: وقوله: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك يعلمون ما توسوس به للعبد نفسُه، كما قال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، فهو يسمع، ومن يشاء من ملائكته.وأما الكتابة فرسله يكتبون كما قال هاهنا:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]، وأخبر بالكتابة: نحن؛ لأن جنده يكتبون بأمره، وفصل في تلك الآية بين السماع والكتابة؛ لأنه يسمع بنفسه.وأما كتابة الأعمال فتكون بأمره، والملائكة يكتبون، فقوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} مثل قوله:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} لما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمره، كما كانوا كاتبين عمله بأمره، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة، كتكليمه عبده بتوسط الرسل، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51]، فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة. انتهى كلامه رحمه الله.وقوله تعالى:.تفسير الآية رقم (17): القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [17].{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أي: ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به. فـ: {إذْ} ظرف لأقرب، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين، فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته، وهي إلزام الحُجَّة في الأخرى، والتقدم إلى ما يرغبه ويرهبه في الأولى.وقال القاشاني: بيَّن تعالى بهذه الآية أقربيَّته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: هو مع كل شيء لا بمقارنة؛ إذ الشيء به ذلك الشيء، وبدونه ليس شيئاً حتى يقارنه. أي: يعلم حديث نفسه الذي توسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين، مع كونه أقرب إليه منهما. وإنما تلقيهما للحجة عليه، وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية، للجزاء.ثم قال: والمتلقي القاعد عن اليمين، وهو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة، وإنما قعد عن يمينه لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة، وهي جهة النفس التي تلي الحق. والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية، والآراء الشيطانية والوهمية، والأقوال الخبيثة الفاسدة، وإنما قعد عن الشمال لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة، وهي التي تلي البدن، ولأن الفطرة الإنسانية خيِّرة بالذات، لكونها من عالم الأنوار، مقتضية بذاتها وغريزتها الخيرات. والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال، وإن صدرت منه سيئة منع صاحبَ الشمال من كتابتها في الحال انتظاراً للتسبيح، أي: التنزيه عن الغواشي البدنية والهيئات الطبيعية، بالرجوع إلى مقره الأصليّ وسنخه الحقيقيّ وحاله الغريزي؛ لينمحي أثر ذلك الأمر العارضيّ بالنور الأصليّ والاستغفار، أي: التنوُّر بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية، لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية بالنور الوارد كما روي «أن كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار: دعهُ سبعَ ساعات، لعلَّه يسبِّح أو يستغفر». انتهى.وقد كثر في كلام القاشاني رحمه الله تأويل المَلَك بالقوة الحاثة على الخير، والشيطان بالمغوية على الشر. وسبقه إليه الحكماء، قال بعض الحكماء: هذا الشيء الذي أودِع فينا ونسميه قوة وفكراً، وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كُنهه، وروحٌ لا تُكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكاً ويسمي أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجْر فيها على الناس، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ والعلم الواسع؟.وقد سبق الغزاليُّ إلى هذا المعنى وعبَّر عنه بالسبب، وقال: إنه يسمَّى ملَكا، فإنه في شرح عجائب القلب من كتاب الإحياء بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم، قال: وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً... إلخ. والبحث كله غُرر، تجدر مراجعته.لطيفة:{قَعِيدٌ} كجليس بمعنى مجالس، لفظاً ومعنى، وإنما أفرِد رعايةً للفواصل، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كقوله:وقيل: يطلق فعيل للواحد والمتعدد، كقوله:{وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وضعف بأنه ليس على إطلاقه، بل إذا كان فعيل بمعنى مفعول بشروطه، وهذا بمعنى فاعل، فلا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول.
|