الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط
.بَابٌ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: (قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) امْرَأَةٌ حَامِلٌ تُرِيدُ أَنْ تَهَبَ مَهْرَهَا لِزَوْجِهَا عَلَى أَنَّهَا إنْ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا كَانَ الزَّوْجُ بَرِيئًا مِنْ الْمَهْرِ، وَإِنْ سَلِمَتْ عَادَ الْمَهْرُ عَلَى زَوْجِهَا، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ الزَّوْجِ ثَوْبًا لَمْ تَرَهُ بِأَنْ كَانَ فِي مِنْدِيلٍ فَتَشْتَرِيهِ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا أَوْ نِصْفِهِ فَإِنْ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا بَرِئَ الزَّوْجُ، وَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ عِلَّتِهَا رَدَّتْ الثَّوْبَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَعَادَ الْمَهْرُ عَلَى زَوْجِهَا، وَهَذَا يَسْتَقِيمُ إذَا بَقِيَ الثَّوْبُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَبِهِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ فَيَعُودُ الْمَهْرُ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ، وَلَكِنَّ الثَّوْبَ قَدْ يَتَعَيَّبُ عِنْدَهَا أَوْ يَهْلَكُ فَيَتَعَذَّرُ رَدُّهُ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَشْتَرِيَ الثَّوْبَ وَتُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْبِضَهُ مِنْ الزَّوْجِ حَتَّى لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا الرَّدُّ إذَا سَلِمَتْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ اشْتَرَاهَا الْآمِرُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَخَافَ الْمَأْمُورُ إنْ اشْتَرَاهَا أَنْ لَا يَرْغَبَ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا قَالَ: يَشْتَرِي الدَّارَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِيهَا وَيَقْبِضُهَا ثُمَّ يَأْتِيهِ الْآمِرُ فَيَقُولُ لَهُ قَدْ أَخَذْتهَا مِنْك بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَيَقُولُ الْمَأْمُورُ هِيَ لَك بِذَلِكَ، وَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الشَّرْطِ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُمَا وَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُشْتَرَى بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ هَلْ يَمْلِكُهُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّمَا قَالَ الْآمِرُ: يَبْدَأُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُشْتَرَى فَيَقُولُ: أَخَذْت مِنْك بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ لَهُ لَوْ بَدَأَ قَالَ: بِعْتهَا مِنْك رُبَّمَا لَا يَرْغَبُ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا وَيَسْقُطُ خِيَارُ الْمَأْمُورِ بِذَلِكَ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي أَنْ يَبْدَأَ الْآمِرُ حَتَّى إذَا قَالَ الْمَأْمُورُ: هِيَ لَك بِذَلِكَ، ثُمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا يُمَكِّنُ الْمَأْمُورَ مِنْ رَدِّهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ حَلَفَ يُعْتِقُ كُلَّ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَرَادَ أَنْ يُعْتِقَ وَيَجُوزَ عَنْ ظِهَارِهِ قَالَ يَقُولُ الرَّجُلُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَا، وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ لِلْآمِرِ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ تَصْحِيحِ الْعِتْقِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ وَالْمَقْصُودُ بِالْإِضْمَارِ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ يَظْهَرُ حُكْمُ الْمُضْمَرِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَا يَصِيرُ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى مَوْجُودًا بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الظِّهَارِ، كَمَا أَوْجَبَهُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَصِيرُ رِوَايَةً فِي فَصْلٍ، وَهُوَ مَنْ قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ: مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَلَا يَمْلِكُ إبْدَالَهُ بِغَيْرِهِ فَعِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ إنَّمَا يُعْتَقُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الظِّهَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَكَلَّفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ: يَقُولُ الرَّجُلُ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى كَذَا، وَلَوْ كَانَ هُوَ يُمْكِنُهُ إعْتَاقُهُ عَنْ ظِهَارِهِ لَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ لِهَذَا الْمَمْلُوكِ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي ثُمَّ يَشْتَرِيهِ فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ هَكَذَا عَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُعْتَقَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً امْرَأَةٌ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَلَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَحَلَفَ مَا لَهَا عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ وَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا قَدْ انْقَضَتْ تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ نَفَقَةً بِقَدْرِ دَيْنِهَا قَالَ يَسَعُهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ ظَفِرَتْ بِجِنْسِ حَقِّهَا كَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَكَذَلِكَ إنْ تَمَكَّنَتْ مِنْ الْأَخْذِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا الزَّوْجَ، وَإِنْ كَانَ يُعْطِيهَا بِطَرِيقِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَهِيَ إنَّمَا تَسْتَوْفِي بِحِسَابِ دَيْنِهَا وَلَهَا حَقُّ اسْتِيفَاءِ مَالِ الزَّوْجِ بِحِسَابِ دَيْنِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْهُ فَإِنْ حَلَّفَهَا الْقَاضِي عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَحَلَفَتْ تَعْنِي بِهِ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ وَسِعَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مَتَى كَانَتْ مَظْلُومَةً تُعْتَبَرُ نِيَّتُهَا، فَإِذَا حَلَفَتْ مَا انْقَضَتْ عِدَّتِي تَعْنِي بِهِ عِدَّةَ عُمْرِهَا وَسِعَهَا ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِبُ ضَامِنًا لَهُ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقْرِضَهُ رَبُّ الْمَالِ الْمَالَ إلَّا دِرْهَمًا ثُمَّ يُشَارِكَهُ بِذَلِكَ الدِّرْهَمِ فِيمَا أَقْرَضَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فَمَا رَزَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى كَذَا، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِالْقَبْضِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُسْتَقْرَضِ مُتَمَلِّكًا ثُمَّ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ التَّفَاوُتِ فِي رَأْسِ الْمَالِ صَحِيحٌ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ عَلَى مَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ وَيَسْتَوِي إنْ عَمَلًا جَمِيعًا أَوْ عَمِلَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَرَبِحَ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَإِنْ شَاءَ أَقْرَضَ الْمَالَ كُلَّهُ لِلْمُضَارِبِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ الْمُسْتَقْرِضُ إلَى الْمُقْرِضِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ الْمُقْرِضُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِضَاعَةً فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ بِضَاعَةً كَدَفْعِهِ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ صَاحِبُ الْمَالِ، وَهُوَ فِي عَمَلِهِ فِي مِلْكِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ فَهَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خَاصَّةً فَالْمَالُ كُلُّهُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ ثُمَّ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمَالِ، وَالرِّبْحُ عَلَى شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحِيلَةُ هِيَ الْأَوْلَى قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَهَا جَارُهَا بِالشُّفْعَةِ فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ مِنْ صَاحِبِهَا ثُمَّ أَعْطَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَالَ: هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُصَادَقَةٌ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَلَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيَّ بَأْسٌ أَنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ وَرُبَّمَا أَبِيعُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا بَأْسَ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ» فَإِنْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي مَا دَالَسْتَ وَلَا دَلَّسْت فَحَلَفَ كَانَ صَادِقًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْغُرُورِ وَالْخِيَانَةِ، وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ يَمِينٌ اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِرَجَاءِ النُّكُولِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَأْمُرَ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ كَذَلِكَ وَيُشْهِدَ عَلَى الْوَكَالَةِ وَيَجْعَلَهُ جَائِزَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ اشْتَرَاهَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ خُصُومَةٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، فَهُوَ خَصْمٌ لِلشَّفِيعِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَى تَسْلِيمِهَا لِلْآمِرِ ثُمَّ يُودِعَهَا الْآمِرُ مِنْهُ أَوْ يُعِيرَهَا رَجُلٌ أَحَبَّ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الدَّارَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا بِعَشَرَةِ آلَافٍ قَالَ يَشْتَرِيهَا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَيَنْقُدُهُ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا، فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ رَغِبَ فِيهَا الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا اُسْتُحِقَّتْ بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، وَلَا يَرْجِعُ إلَّا بِمَا أَدَّى وَقَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ الصَّرْفُ صَحِيحٌ فَلَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ إلَّا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ، وَلَوْ أَعْطَاهُ بِالْبَاقِي مَكَانَ الدِّينَارِ ثَوْبًا أَوْ مَتَاعًا رَجَعَ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِعِشْرِينَ أَلْفٍ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ فِي الثَّوْبِ وَالْمَتَاعِ فَيَكُونُ قَابِضًا مِنْهُ عِشْرِينَ أَلْفٍ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الدَّارِ فَأَمَّا عَقْدُ الصَّرْفِ يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ الدَّارِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا رَدُّ الْمَقْبُوضِ، فَلَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ وَوَجَدَ بِالدَّارِ عَيْبًا رَدَّهَا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ وُجُوهَ الْحِيَلِ لِإِبْطَالِ الشُّفْعَةِ أَوْ لِتَقْلِيلِ رَغْبَةِ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ، وَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مَكْرُوهٌ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مَشْرُوعَةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّفِيعِ فَاَلَّذِي يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ هَذَا الْحَقِّ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُمْكِنَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ إذَا الْتَزَمَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا كَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَيْفَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ وَالْحَجِّ؟ فَهَذَا دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ لَا الْإِضْرَارُ بِالْغَيْرِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ أَوْ تَمَلُّكِ الدَّارِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إضْرَارٌ بِهِ، وَهُوَ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحِيلَةُ لِمَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَمَالِي قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مِنْهَا كَانَ هَذَا مَكْرُوهًا، وَإِنَّمَا تَصَدَّقَ بِالدِّرْهَمِ حَتَّى يَتِمَّ الْحَوْلُ وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ فَلَا يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَلَا أَحَدٌ يَقُولُ بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ يَكُونُ هُوَ فِيهِ آثِمًا قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا لِغَيْرِهِ وَكَتَبَ فِي الصَّكِّ وَنَقَدَ فُلَانٌ فُلَانًا الثَّمَنَ كُلَّهُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ الْآمِرِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ لَا يَرْضَى بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا يَجِيءُ الْآمِرُ فَيَقُولُ: قَدْ أَخَذْت مَالِي وَأَقْرَرْت بِذَلِكَ حِينَ أَشْهَدْت عَلَى الصَّكِّ، وَلَمْ آمُرْ فُلَانًا بِالشِّرَاءِ لِي فَيَسْتَرِدَّ مَالَهُ، وَلَا يَقْدِرُ هُوَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِيُطَالِبَهُ بِثَمَنِ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ هَذَا فَفِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ عَلَى الْآمِرِ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْآمِرَ بِالْمَالِ وَيَقُولَ نَقَدْت الثَّمَنَ مِنْ مَالِي فَالْحِيلَةُ أَنْ يَكْتُبَ: وَقَدْ نَقَدَ فُلَانٌ فُلَانًا الثَّمَنَ.وَلَا يَكْتُبَ مِنْ مَالِ مَنْ هُوَ، فَإِذَا خَتَمَ الشُّهُودُ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ فَقَطْ ثُمَّ يُقِرُّ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مَا نَقَدَهُ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ لِلْآمِرِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ..بَابُ الِاسْتِحْلَافِ: (قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَغِيبَ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: كُلُّ جَارِيَةٍ تَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْكُوفَةِ، وَمِنْ رَأْيِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: إذَا حَلَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَقُولُ: نَعَمْ فَيُرِيهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبَتْ، وَهُوَ يَعْنِي بَنِي تَغْلِبَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَوْ يَنْوِي بِقَلْبِهِ وَاحِدَ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ نَعَمْ وَالْأَنْعَامُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} الْآيَةَ، فَإِذَا عَنَى هَذَا لَمْ يَكُنْ حَالِفًا فَإِنْ أَبَتْ إلَّا أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: كُلُّ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، قَالَ: فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ وَلْيَعْنِ بِذَلِكَ كُلَّ سَفِينَةٍ جَارِيَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} وَالْمُرَادُ السُّفُنُ، فَإِذَا عَنَى ذَلِكَ عَمِلَ بِنِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا ظَالِمَةٌ لَهُ فِي هَذَا الِاسْتِحْلَافِ وَنِيَّةُ الْمَظْلُومِ فِيمَا يُحَلَّفُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِنْ حَلَّفَتْهُ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا فَلْيَقُلْ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَيْك فَهِيَ طَالِقٌ، وَهُوَ يَنْوِي بِذَلِكَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى رَقَبَتِك فَيُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَلَا يَحْنَثُ إذَا تَزَوَّجَ عَلَى غَيْرِ رَقَبَتِهَا فَإِنْ كَانَ إنَّمَا عَنَى أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ عَلَى إطْلَاقِك فَهَذِهِ النِّيَّةُ تَعْمَلُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَحْنَثُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى، وَكَذَلِكَ إنْ عَنَى بِقَوْلِهِ فَهِيَ طَالِقٌ مِنْ الْوَثَاقِ فَنِيَّتُهُ صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَأَطَؤُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَعَنَى الْوَطْءَ بِقَدَمِهِ، فَهُوَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَنْبَغِي أَنْ يَدِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَالْوَطْءُ يَكُونُ بِالْقَدَمِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا نَقُولُ الْوَطْءُ مَتَى أُضِيفَ إلَى النِّسَاءِ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجِمَاعِ دُونَ الْوَطْءِ بِالْقَدَمِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ الْوَطْءُ بِالْقَدَمِ إذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُضَافٍ إلَى النِّسَاءِ، فَلِهَذَا لَا يَدِينُ هُنَا فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى رَجُلٌ اتَّهَمَ جَارِيَةً أَنَّهَا سَرَقَتْ لَهُ مَالًا فَقَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَصْدُقِينِي وَخَافَ الْمَوْلَى أَنْ لَا تَصْدُقَهُ فَتَعْتِقُ فَمَا الْحِيلَةُ فِيهِ قَالَ: تَقُولُ الْجَارِيَةُ: قَدْ سَرَقْته ثُمَّ تَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ أَسْرِقْهُ فَيَتَيَقَّنُ أَنَّهَا صَدَقَتْهُ فِي إحْدَى الْكَلَامَيْنِ، وَلَا تُعْتَقُ، وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ بَدَأْتُك بِالْكَلَامِ وَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنْ ابْتَدَأْتُك بِالْكَلَامِ فَجَارِيَتِي حُرَّةٌ فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ بِالْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ كَلَّمَتْهُ بَعْدَ كَلَامِهِ حِينَ خَاطَبَتْهُ بِيَمِينِهَا فَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُبْتَدِئًا لَهَا بِالْكَلَامِ بَعْدَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُكَلِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مَعًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ إذَا حَلَفَ رَجُلَانِ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ ابْتَدَأْتُك بِالْكَلَامِ فَالْتَقَيَا وَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مَعًا لَمْ يَحْنَثْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ بِالشَّيْءِ مَنْ يَسْبِقُ غَيْرَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ كَلَامُهُ بِكَلَامِ صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدِئًا رَجُلٌ قَالَ: وَاَللَّهِ أَمَّا أَنَا لَا أَجْلِسُ فَمَا أَقُومُ حَتَّى أُقَامَ يَعْنِي حَتَّى يُقَوِّيَنِي اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَيُقِيمَنِي، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فَلَا يَقُومُ أَحَدٌ مَا لَمْ يُقِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ} أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إلَّا أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ، وَهُوَ يَعْنِي بِذَلِكَ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ، فَإِنَّهُ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ، وَلَا يَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ بِحَالٍ وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ ذُقْت طَعَامًا حَتَّى أَضْرِبَك فَأَنِفَتْ الْأَمَةُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَهَبَهَا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ ثُمَّ يَتَنَاوَلَ الطَّعَامَ فَلَا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِوَلَدِهِ بِنَفْسِ الْهِبَةِ، فَإِنَّمَا يُوجَدُ الشَّرْطُ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَالَ: وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ امْرَأَةٍ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: اخْلَعْنِي فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ سَأَلْتنِي الْخُلْعَ إنْ لَمْ أَخْلَعْك فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: جَارِيَتِي حُرَّةٌ إنْ لَمْ أَسْأَلْك قَبْلَ اللَّيْلِ وَجَاءَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَلِيهِ الْخُلْعَ فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَسْأَلُك أَنْ تَخْلَعَنِي فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِزَوْجِهَا: قُلْ قَدْ خَلَعْتُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ تُعْطِيهَا لِي فَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهَا قُولِي لَا أَقْبَلُهُ فَقَالَتْ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قُومَا، فَقَدْ بَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهَا فِي الْيَمِينِ أَنْ تَسْأَلَهُ الْخُلْعَ، وَقَدْ سَأَلَتْهُ وَشَرْطَ بِرِّ الزَّوْجِ أَنْ يَخْلَعَهَا بَعْدَ سُؤَالِهَا، وَقَدْ فَعَلَ، فَإِنَّمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ حِينَ رَدَّتْ الْخُلْعَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَصِيرُ رِوَايَةً فِيمَا إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: اخْلَعْنِي فَقَالَ الزَّوْجُ خَلَعْتُك عَلَى كَذَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْفُرْقَةُ مَا لَمْ تَقُلْ الْمَرْأَةُ قَبِلْت بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ: اخْلَعْنِي عَلَى كَذَا فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت، فَإِنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَذْكُرْ الْبَدَلَ كَانَ كَلَامُهَا سُؤَالًا لِلْخُلْعِ لَا أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّ فِي النِّكَاحِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ الْبَدَلَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَذْكُرَ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ، وَلَا يَعْتَمِدُ الرِّضَى وَوُجُوبُ الْبَدَلِ فِي الْخُلْعِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ وَبِاعْتِبَارِ تَمَامِ الرِّضَا، فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا إذَا ذَكَرَ الْبَدَلَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ نَظِيرَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ فَقَالَ: إنَّ بَعْضَ مَنْ كَانَ يَتَأَذَّى مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ كَلَامٌ فَامْتَنَعَتْ مِنْ جَوَابِهِ فَقَالَ: إنْ لَمْ تُكَلِّمِينِي اللَّيْلَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَسَكَتَتْ وَامْتَنَعَتْ مِنْ كَلَامِهِ فَخَافَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَطَافَ عَلَى الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي اللَّيْلِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ حِيلَةً فَجَاءَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ أَتَيْت أُسْتَاذَك فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إلَيْهِ وَيَقُولُ لَا فَرَجَ لِي إلَّا مِنْ قِبَلِك فَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَقُلْ لِلَّذِينَ حَوْلَهَا مِنْ أَقَارِبِهَا اُدْعُوهَا فَمَاذَا أَصْنَعُ بِكَلَامِهَا، فَإِنَّهَا أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ التُّرَابِ وَأَسْمَعُهَا مِنْ هَذَا بِمَا تَقْدِرُ فَجَاءَ وَقَالَ ذَلِكَ حَتَّى ضَجِرَتْ وَقَالَتْ بَلْ أَنْتَ كَذَا وَكَذَا فَصَارَتْ مُكَلِّمَةً لَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَخَرَجَ مِنْ يَمِينِهِ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ أَوْرَدَهَا فِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ إنَّهُ قَالَ لِلرَّجُلِ ارْجِعْ إلَى بَيْتِك حَتَّى آتِيك فَأَتَشَفَّعَ لَك فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلَى بَيْتِهِ وَجَاءَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَثَرِهِ فَصَعِدَ مِئْذَنَةَ مَحَلَّتِهِ وَأَذَّنَ فَظَنَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَقَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانِي مِنْك فَجَاءَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الْبَابِ وَقَالَ قَدْ بَرَّتْ يَمِينُك وَأَنَا الَّذِي أَذَّنْت أَذَانَ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ قَالَ وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَخَوَيْنِ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ فَزُفَّتْ امْرَأَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجِ أُخْتِهَا فَلَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ: لِيُطَلِّقْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً ثُمَّ يَتَزَوَّجْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا، وَفِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذُكِرَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حِكَايَةٌ أَنَّهَا وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْأَشْرَافِ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ قَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِوَلِيمَتِهِ، وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ فِي عِدَادِ الشَّبَابِ يَوْمَئِذٍ فَكَانُوا جَالِسِينَ عَلَى الْمَائِدَةِ إذْ سَمِعُوا وَلْوَلَةَ النِّسَاءِ فَقِيلَ: مَاذَا أَصَابَهُنَّ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ غَلِطُوا فَأَدْخَلُوا امْرَأَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَدَخَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاَلَّتِي أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَقَالُوا: إنَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى مَائِدَتِكُمْ فَسَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلُوا فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا قَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الْمَهْرُ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْعِدَّةُ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْكُثُ بِأُصْبُعِهِ عَلَى طَرَفِ الْمَائِدَةِ كَالْمُتَفَكِّرِ فِي شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ مَنْ إلَى جَانِبِهِ أَبْرِزْ مَا عِنْدَك هَلْ عِنْدَك شَيْءٌ آخَرُ فَغَضِبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ هَلْ: يَكُونُ عِنْدَهُ بَعْدَ قَضَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْنِي فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَيَّ بِالزَّوْجَيْنِ فَأَتَى بِهِمَا فَسَارَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّهُ هَلْ تُعْجِبُك الْمَرْأَةُ الَّتِي دَخَلْت بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: طَلِّقْ امْرَأَتَك تَطْلِيقَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ زَوَّجَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا وَقَالَ قُومَا إلَى أَهْلِكُمَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ سُفْيَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْت؟ فَقَالَ: أَحْسَنَ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبَهَا إلَى الْأُلْفَةِ وَأَبْعَدَهَا عَنْ الْعَدَاوَةِ أَرَأَيْت لَوْ صَبَرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ أَمَا كَانَ يَبْقَى فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ بِدُخُولِ أَخِيهِ بِزَوْجَتِهِ؟ وَلَكِنِّي أَمَرْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ دُخُولٌ، وَلَا خَلْوَةٌ، وَلَا عِدَّةٌ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِمَّنْ وَطِئَهَا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ وَعِدَّتُهُ لَا تَمْنَعُ نِكَاحَهُ وَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ زَوْجَتِهِ وَلَيْسَ فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ فَعَجِبُوا مِنْ فِطْنَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحُسْنِ تَأَمُّلِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ بَيَانُ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي خَتَمَ بِهَا الْكِتَابَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
|