الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي.وقيل: هو البطر والأَشَر.وقيل: هو النشاط.وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين: أحدهما مذموم والآخر محمود؛ فالتكبّر والبَطَر والخُيَلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود.وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما؛ ففي الحديث الصحيح: «لَلَّهُ أفرح بتوبة العبد من رجل» الحديث.والكسل مذموم شرعًا والنشاط ضدّه.وقد يكون التكبر وما في معناه محمودًا، وذلك على أعداء الله والظلمة.أسند أبو حاتم محمد بن حِبّان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مِن الغَيْرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخُيَلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغَيْرَةُ في الدِّين والغيرة التي يبغض الله الغيرةُ في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل» وأخرجه أبو داود في مصنَّفه وغيره.وأنشدوا:
الثانية: إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفُّعًا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنًى.وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه، يجُمّ فيها نفسه في التطرّح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو صلاة، فليس بداخل في هذه الآية.قوله تعالى: {مَرَحًا} قراءة الجمهور بفتح الراء.وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل.والأوّل أبلغ، فإن قولك: جاء زيد ركْضًا أبلغ من قولك: جاء زيد راكضًا؛ فكذلك قولك مَرَحًا.والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مَرِحًا.الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} يعني لن تتولّج باطنها فتعلم ما فيها {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولًا} أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك.ويقال: خرق الثوب أي شقه، وخرق الأرض قطعها.والخَرْق: الواسع من الأرض.أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها.{وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولًا} بعظمتك، أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك، والمحاط محصور ضعيف؛ فلا يليق بك التكبر.والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة؛ والله أعلم.وقال الأزهري: معناه لن تقطعها.النحاس: وهذا أبْين؛ لأنه مأخوذ من الخرق وهي الصحراء الواسعة.ويقال: فلان أخرق من فلان، أي أكثر سفرًا وعزة ومَنعة.ويروى أن سَبَأ دوّخ الأرض بأجناده شرقًا وغربًا وسَهْلًا وجبلًا، وقتل سادة وسبى وبه سُمِّيَ سبأ ودان له الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال: إني لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أوّلَ عبادة الشمس؛ فهذه عاقبة الخُيَلاء والتكبر والمرَح، نعوذ بالله من ذلك.الرابعة: قوله تعالى: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} {ذلك} إشارة إلى جملة ما تقدّم ذكره مما أمر به ونَهَى عنه.و{ذلك} يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر.وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق {سيئُهُ} على إضافة سَيِّء إلى الضمير، ولذلك قال: {مَكْرُوهًا} نصب على خبر كان.والسيِّىء: هو المكروه، وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به.وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآي من قوله: {وقَضَى ربُّك إلى قوله كان سيّئُه} مأمورات بها ومنهيات عنها، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيّئة فيدخل المأمور به في المنهيّ عنه.واختار هذه القراءة أبو عبيد.ولأن في قراءة أبي: {كلُّ ذلِك كان سيئاته} فهذه لا تكون إلا للإضافة.وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {سيئةً} بالتنوين؛ أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة.وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله: {وأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ثم قال: {وَلاَ تَقْفُ ما ليسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} {وَلاَ تَمْشِ} ثم قال: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئَةٌ} بالتنوين.وقيل: إن قوله: {ولا تقتلوا أولادَكم} إلى هذه الآية كان سيئةً لا حسنة فيه، فجعلوا {كلا} محيطًا بالمنهيّ عنه دون غيره.وقوله: {مكروهًا} ليس نعتًا لسيئة، بل هو بدل منه؛ والتقدير: كان سيئة وكان مكروهًا.وقد قيل: إن {مكروهًا} خبر ثان لكان حمل على لفظة كلّ، و{سيئة} محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبلُ.وقال بعضهم: هو نعت لسيئة؛ لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر.وضعّف أبو علي الفارسيّ هذا وقال: إن المؤنث إذا ذُكّر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده مذكرًا، وإنما التساهل أن يتقدّم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكّر؛ ألا ترى قولَ الشاعر: مستقبح عندهم.ولو قال قائل: أبقل أرض لم يكن قبيحًا.قال أبو عليّ: ولكن يجوز في قوله: {مكروهًا} أن يكون بدلًا من {سيئة}.ويجوز أن يكون حالًا من الضمير الذي في {عند ربك} ويكون {عند ربك} في موضع الصفة لسيئة.الخامسة: استدلّ العلماء بهذه الآية على ذمّ الرّقْص وتعاطيه.قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل: قد نصّ القرآن على النّهي عن الرقص فقال: {ولا تمش في الأرض مَرَحًا} وذم المختال.والرقصُ أشد المرح والبطر.أو لسنا الذين قِسْنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشِّعر معه على الطُّنبور والمِزمار والطّبل لاجتماعهما.فما أقبح من ذي لِحْية، وكيف إذا كان شيبةً، يرقص ويصفّق على إيقاع الألحان والقضبان، وخصوصًا إن كانت أصواتٌ لنسوان ومردان، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط، ثم هو إلى إحدى الدّارين، يَشْمُس بالرقص شمس البهائم، ويصفّق تصفيق النسوان، والله لقد رأيت مشايخ في عمري ما بان لهم سِنّ من التبسّم فضلًا عن الضحك مع إدمان مخالطتي لهم.وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ولقد حدّثني بعض المشايخ عن الإمام الغزالي رضي الله عنه أنه قال: الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا باللعب.وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في الكهف وغيرها إن شاء الله تعالى.{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} الإشارة ب {ذلك} إلى هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل عليه السلام.أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة.ثم عطف قوله: {ولا تجعل} على ما تقدّم من النواهي.والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ كلُّ من سمع الآية من البشر.والمدحور: المُهان المبعد المُقْصَى.وقد تقدّم في هذه السورة.ويقال في الدعاء: اللهم ادحر عنا الشيطان؛ أي أبعده. اهـ. .قال أبو حيان: {وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا} وانتصب {مرَحًا} على الحال أي {مرَحًا} كما تقول: جاء زيد ركضًا أي راكضًا أو على حذف مضاف أي ذا مرح، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولًا من أجله أي {ولا تمش في الأرض} للمرح ولا يظهر ذلك، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال، ولذلك بقوله علل {إنك لن تخرق الأرض}.وقرأت فرقة فيما حكي يعقوب: {مرحًا} بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبرًا مختالًا.قال مجاهد: لن تخرق بمشيك على عقبيك كبرًا وتنعمًا، {ولن تبلغ الجبال} بالمشي على صدور قدميك تفاخرًا و{طولًا} والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال.وقال الزجاج: {لا تمش في الأرض} مختالًا فخورًا، ونظيره: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} و{اقصد في مشيك ولا تمش في الأرض مرحًا إن الله لا يحب كل مختال فخور} وقال الزمخشري: {لن تخرق الأرض} لن تجعل فيها خرقًا بدوسك لها وشدّة وطئك، {ولن تبلغ الجبال طولًا} بتطاولك وهو تهكُّم بالمختال.وقرأ الجراح الأعرابي: {لن تخرق} بضم الراء.قال أبو حاتم: لا تعرف هذه اللغة.وقيل: أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لا يليق به التكبر.وقال الشاعر:والأجود انتصاب قوله: {طولًا} على التمييز، أي لن يبلغ طولك الجبال.وقال الحوفي: {طولًا} نصب على الحال، والعامل في الحال {تبلغ} ويجوز أن يكون العامل تخرق، و{طولًا} بمعنى متطاول انتهى.وقال أبو البقاء: {طولًا} مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول، ويجوز أن يكون تمييزًا ومفعولًا له ومصدرًا من معنى تبلغ انتهى.وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث.وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق {سيئة} بضم الهمزة مضافًا لهاء المذكر الغائب.وقرأ عبد الله سيئاته بالجمع مضافًا للهاء، وعنه أيضًا سيئات بغيرها، وعنه أيضًا كان خبيثه.فأما القراءة الأولى فالظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين، وهما قفو ما ليس له به علم، والمشي في الأرض مرحًا.وقيل: إشارة إلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروهًا فذكر.قال الزمخشري: السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئًا، ألا تراك تقول: الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى.وهو تخريج حسن.وقيل: ذكر {مكروهًا} على لفظ {كل} وجوزوا في {مكروهًا} أن يكون خبرًا ثانيًا لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان، وأن يكون بدلًا من سيئة والبدل بالمشتق ضعيف، وأن يكون حالًا من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة.قيل: ويجوز أن يكون نعتًا لسيئة لما كان تأنيثها مجازيًا جاز أن توصف بمذكر، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح، تقول: أبقل الأرض إبقالها فصيحًا والأرض أبقل قبيح، وأما من قرأ {سيئة} بالتذكير والإضافة فسيئة اسم {كان} و{مكروهًا} الخبر، ولما تقدم من الخصال ما هو سيء وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموع وأفرد سيئة وهو المنهي عنه، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات.وأما قراءة عبد الله فتخرج على أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله: لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضًا كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله: {لا تجعل مع الله إلها آخر} إِلَى قوله: {ولا تمش في الأرض مرحًا} وهي أربعة وعشرون نوعًا من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله: {لا تجعل}.واختتم الآيات بقوله: {ولا تجعل} وقال: مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر، و{مما أوحى} خبر عن ذلك، و{من الحكمة} يجوز أن يكون متعلقًا بأوحى وأن يكون بدلًا من ما، وأن يكون حالًا من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ.وعن ابن عباس: إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، أولها {لا تجعل مع الله إلهًا آخر} قال تعالى: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلًا لكل شيء} وكرر تعالى النهي عن الشرك، ففي النهي الأول.{فتقعد مذمومًا مخذولًا} وفي الثاني {فتلقى في جهنم ملومًا مدحورًا} والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذمومًا أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر، وكونه ملومًا أن يقال له بعد الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلاّ إلحاق الضرر بنفسك، فأول الأمر الذم وآخره اللوم، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهانًا.وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة، ولذلك جاء {فتلقى في جهنم} والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول.وقال الزمخشري: ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدِمَه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذَّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم. اهـ.
|