الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا}. العامةُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ {أُخْفيها}. وفيها تأويلاتٌ، أحدُها: أن الهمزةَ في {أُخْفيها} للسَّلْبِ والإِزالةِ أي: أُزيل خفاءَها نحو: أعجمتُ الكتابَ أي: أزلْتُ عُجْمَتَه. ثم في ذلك معنيان، أحدهما: أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها. والمعنى: أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من التأخير. والثاني: أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي. والمعنى: أزيلُ ظهورَها، وإذا أزالَ ظهورَها فقد استترَتْ. والمعنى: أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ البتةَ، وإن كان لابد من إظهارِها؛ ولذلك يوجدُ في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ: أكاد أُخْفيها مِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها؟ وهو على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال: وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه؟ والتأويلُ الثاني: أنَّ كاد زائدةٌ. قاله ابنُ جُبَيْر. وأنشدَ غيرُه شاهدًا عليه قولَ زيدِ الخيل: وقال آخر: ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه. والتأويل الثالث: أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ، ولا ينفعُ فيما قصدوه. والتأويل الرابع: أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره: أكاد آتي به لقُرْبها. وأنشدوا قول ضابىء البرجمي: أي: وكِدْتُ أفعلُ، فالوقفُ على {أكادُ}، والابتداء ب {أُخْفيها}، واستحسنه أبو جعفر. وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ {أَخْفيها} بفتح الهمزة. والمعنى: أُظْهرها، بالتأويل المتقدم يقال: خَفَيْتُ الشيءَ: أظهَرْتُه، وأَخْفَيْتُه: سترته، هذا هو المشهور. وقد نُقِل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنىً. وحُكي عن أبي عبيد أنَّ {أَخْفى} من الأضدادِ يكون بمعنى أظهر وبمعنى سَتَر، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان. ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى أظهَرْت قولُ امرئ القيس: وقول الآخر: قوله: {لتجزى} هذه لامُ كي، وليسَتْ بمعنى القسمِ أي: لَتُجْزَيَنَّ كما نقله أبو البقاء عَنْ بعضهم. وتتعلَّق هذه اللامُ ب {أُخْفيها}. وجعلها بعضُهم متعلقةً ب {آتيةٌ} وهذا لا يَتِمُّ إلاَّ إذا قَدَّرْتَ أنَّ {أكاد أُخْفيها} معترضةٌ بين المتعلَّقِ والمتعلَّقِ به، أمَّا إذا جعلتَها صفةً لآتِيَةٌ فلا يتجه على مذهب البصريين؛ لأن اسمَ الفاعلِ متى وُصِفَ لم يعملْ، فإنْ عَمِل ثم وُصِف جاز. وقال أبو البقاء: وقيل ب {آتِيَةٌ}، ولذلك وَقَفَ بعضُهم عليه وَقْفَةً يسيرةً إيذانًا بانفصالِها عن {أخفيها}. قوله: {بِمَا تسعى} متعلقٌ ب {تجزى}. و{ما} يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أو موصولةً اسميةً، ولابد من مضاف أي: تُجْزى بعقابِ سَعْيها أو بعقابِ ما سَعَتْه. قوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا}: {مَن لاَّ يُؤْمِنُ} هو المَنْهيٌّ صورةً، والمرادُ غيرُه، فهو من بابِ لا أُرَيَنَّك هَهنا. وقيل: إنَّ صَدَّ الكافر عن التصديقِ بها سببٌ للتكذيب، فذكر السببَ ليدُلَّ على المسبَّب. والضميران في {عنها} و{بها} للساعة. وقيل: للصلاة. وقيل في {عنها} للصلاة، وفي {بها} للساعة. قوله: {فتردى} يجوزُ فيه أَنْ ينتصبَ في جوابِ النهيِ بإضمارِ {أنْ}، وأن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: فأنت تردى. وقرأ يحيى {تردى} بكسر التاء. وقد تقدم أنها لغةٌ. والردى: الهلاك يقال: رَدِيَ يردى رَدى. قال دُرَيْدُ بن الصِّمَّة: . اهـ. .تفسير الآيات (17- 23): .مناسبة الآية لما قبلها: ولما كان المقام مرشدًا إلى أن يقال: ما جوابك يا موسى عما سمعت؟ وكان تعالى عالمًا بأنه يبادر إلى الجواب بالطاعة في كل ما تقدم، طوى هذا المقال مومئًا إليه بأن عطف عليه قوله: {وما تلك} أي العالية المقدار {بيمينك يا موسى} مريدًا- بعد تأنيسه بسؤاله عما هو أعلم به منه- إقامة البينة لديه بما يكون دليلًا على الساعة من سرعة القدرة على إيجاد ما لم يكن، بقلب العصا حية بعد تحقق أنها عصاه يقرب النظر إليها عند السؤال عنها ليزداد بذلك ثباتًا ويثبت من يرسل إليهم {قال هي} أي ظاهرًا وباطنًا {عصاي} ثم وصل به مستأنسًا بلذيذ المخاطبة قوله بيانًا لمنافعها خوفًا من الأمر بإلقائها كالنعل: {أتوكأ} أي أعتمد وأرتفق وأتمكن {عليها} أي إذا أعييت أو أعرض لي ما يحوجني إلى ذلك من زلق أو هبوط أو صعود أو طفرة أو ظلام ونحو ذلك؛ ثم ثنى بعد مصلحة نفسه بأمر رعيته فقال: {وأهشُّ} أي أخبط الورق، قال ابن كثير: قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك: والهش أن يضع الرجب المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود ولا يخبط فهذا الهش، قال: وكذا قال ميمون بن مهران، وقال أبو حيان: والأصل في هذه المادة الرخاوة. يقال: رجل هش. {بها على غنمي}. ولما كان أكمل أهل ذلك الزمان، خاف التطويل على الملك فقطع على نفسه ما هو فيه من لذة المخاطبة كما قيل: اجلس على البساط وإياك والانبساط، وطمعًا في سماع كلامه سبحانه وتعالى، فقال مجملًا: {ولي فيها مآرب} أي حوائج ومنافع يفهمها الألبّاء. ولما كان المحدث عنه لايعقل، وأخبر عنه بحمع كثرة، كان الأنسب معاملته معاملة الواحدة المؤنثة فقال: {أخرى} تاركًا للتفصيل، فكأنه قيل: فماذا قيل له؟ فقيل: {قال ألقها} أي العصا، وأنسه بقوله سبحانه وتعالى: {يا موسى فألقاها} أي فتسبب عن هذا الأمر المطاع أنه ألقاها ولم يتلعثم {فإذا هي} أي في الحال ظاهرًا وباطنًا {حية} عظيمة جدًا يطلق عليها لعظمعا بنهاية أمرها اسم الثعبان، والحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير {تسعى} سعيًا خفيفًا يطلق عليها لأجله في أول أمرها اسم الجان، فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنها صارت حية صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورم حتى صارت ثعبانًا- انتهى. فهي في عظم الثعبان وسرعة الجان. ولما كان ذلك أمرًا مخيفًا، استشرف السامع إلى ما يكون من حاله عند مثل هذا بعد ذلك، فاستأنف إخباره بقوله: {قال} أي الله تبارك وتعالى على ما يكون منها عند فرعون لأجل التدريب: {خذها ولا تخف} مشيرًا إلى أنه خاف منها على عادة الطبع البشريّ؛ ثم علل له النهي عن الخوف بقوله: {سنعيدها} أي بعظمتنا عند أخذك لها بوعد لا خلف فيه {سيرتها} أي طريقتها {الأولى} من كونها عصا، فهذه آية بينة على أن الذي يخاطبك هو ربك الذي له الأسماء الحسنى، فنزلت عليه السكينة، وبلغ من طمأنينته أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها، فإذا هي عصاه، ويده بين شعبتيها. ولما أراه آية في بعض الآفاق، أراد أن يريه آية في نفسه فقال: {واضمم يدك} من جيبك الذي يخرج منه عنقك {إلى جناحك} أي جنبك تحت العضد تنضم على ما هي عليه من لونها وما بها من الحريق، وأخرجها {تخرج} فالآية من باب الاحتباك، والجناح: اليد، والعضد، والأبط، والجانب- قاله في القاموس، فلا يعارض هذا ما في القصص لأنه أطلق الجناح هناك على اليد وهي أحق به، وهنا على الجنب الذي هو موضعها تسمية للمحل باسم الحال {بيضاء} بياضًا كالشمس تتعجب منه. ولما كان البرص أبغض شيء إلى العرب، نافيًا له ولغيره، ولم يسمه باسمه لأن أسماعهم له مجاجة، ولأن نفي الأعم من الشيء أبلغ من نفيه بخصوصه: {من غير سوء} أي مرض لا برص ولا غيره، حال كونها {آية أخرى} افعل ما أمرتك به من إلقاء العصا وضم اليد، أو فعلنا ذلك من إحالة العصا ولون اليد من مناداتك لمناجاتك {لنريك} في جميع أيام نبوتك {من آياتنا الكبرى} ليثبت بذلك حنانك، ويزداد إتقانك. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: اعلم أن قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} لفظتان، فقوله: {وَمَا تِلْكَ} إشارة إلى العصا، وقوله: {بِيَمِينِكَ} إشارة إلى اليد، وفي هذا نكت، إحداها: أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزًا قاهرًا وبرهانًا باهرًا، ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيوانًا، وصار الجسم الكثيف نورانيًا لطيفًا، ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد، فأي عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى سعادة الطاعة ونور المعرفة. وثانيها: أن بالنظر الواحد صار الجماد ثعبانًا يبتلع سحر السحرة، فأي عجب لو صار القلب بمدد النظر الإلهي بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء. وثالثها: كانت العصا في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركة يمينه انقلبت ثعبانًا وبرهانًا، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليمين موسى عليه السلام هذه الكرامة والبركة، فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب إصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية، ثم هاهنا سؤالات: الأول: قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} سؤال، والسؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة فيه. والجواب فيه فوائد: إحداها: أن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئًا شريفًا فإنه يأخذه ويعرضه على الحاضرين ويقول لهم: هذا ما هو؟ فيقولون هذا هو الشيء الفلاني ثم إنه بعد إظهار صفته الفائقة فيه يقول لهم خذا منه كذا وكذا. فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة كانقلابها حية، وكضربه البحر حتى انفلق، وفي الحجر حتى انفجر منه الماء، عرضه أولًا على موسى فكأنه قال له: يا موسى هل تعرف حقيقة هذا الذي بيدك وأنه خشبة لا تضر ولا تنفع، ثم إنه قلبه ثعبانًا عظيمًا، فيكون بهذا الطريق قد نبه العقول على كمال قدرته ونهاية عظمته من حيث إنه أظهر هذه الآيات العظيمة من أهون الأشياء عنده فهذا هو الفائدة من قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى}. وثانيها: أنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه، ثم إنه مزج اللطف بالقهر فلاطفه أولًا بقوله: {وَأَنَا اخترتك} ثم قهره بإيراد التكاليف الشاقة عليه وإلزامه علم المبدأ والوسط والمعاد ثم ختم كل ذلك بالتهديد العظيم، تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} ليعرف موسى عليه السلام أن يمينه هي التي فيها العصا، أو لأنه لما تكلم معه أولًا بكلام الإلهية وتحير موسى من الدهشة تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة، والنكتة فيه أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة أراد رب العزة إزالتها فسأله عن العصا وهو لا يقع الغلط فيه. كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال فالدهشة تغلبه والحياء يمنعه عن الكلام فيسألونه عن الأمر الذي لم يغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه. وثالثها: أنه تعالى لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية، فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر، تنبيهًا على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات النبي الحاضر فلولا التوفيق والعصمة كيف يمكنهم الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها. ورابعها: فائدة هذا السؤال أن يقرر عنده أنه خشبة حتى إذا قلبها ثعبانًا لا يخافها. السؤال الثاني: قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} خطاب من الله تعالى مع موسى عليه السلام بلا واسطة، ولم يحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمد. الجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى كما خاطب موسى فقد خاطب محمدًا عليه السلام في قوله: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10] إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق، والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وسلم كان سرًا لم يستأهل له أحد من الخلق.
|