الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (45- 47): {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)}قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} تقدم معناه. {فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ} قال مجاهد: أي مؤمن وكافر، قال: والخصومة ما قصه الله تعالى في قوله: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} إلى قوله: {كافِرُونَ}.وقيل: تخاصمهم أن كل فرقة قالت: نحن على الحق دونكم. قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة، المعنى: لم تؤخرون الايمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب، فكان الكفار يقولون لفرط الإنكار: ايتنا بالعذاب.وقيل: أي لم تفعلون ما تستحقون به العقاب، لا أنهم التمسوا تعجيل العذاب. {لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} أي هلا تتوبون إلى الله من الشرك. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكي ترحموا، وقد تقدم. قوله تعالى: {قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} أي تشاءمنا. والشؤم النحس. ولا شيء أضر بالرأى ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة. ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل.وقال الشاعر:وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة، وكانت إذا أرادت سفرا نفرت طائرا، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت، فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك وقال: {أقروا الطير على وكناتها} على ما تقدم بيانه في المائدة. {قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي مصائبكم. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي تمتحنون.وقيل: تعذبون بذنوبكم. .تفسير الآيات (48- 49): {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)}قوله تعالى: {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ} أي في مدينة صالح وهي الحجر {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي تسعة رجال من أبناء أشرافهم. قال الضحاك. كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد، فحلسوا عند صخرة عظيمة فقلبها الله عليهم.وقال عطاء بن أبي رباح: بلغني أنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم، وذلك من الفساد في الأرض، وقاله سعيد بن المسيب.وقيل: فسادهم أنهم يتبعون عورات الناس ولا يسترون عليهم.وقيل: غير هذا. واللازم من الآية ما قاله الضحاك وغيره أنهم كانوا من أوجه القوم وأقناهم وأغناهم، وكانوا أهل كفر ومعاص جمة، وجملة أمرهم أنهم يفسدون ولا يصلحون. والرهط اسم للجماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم رهط. والجمع أرهط وأراهط. قال:وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب قدار عاقر الناقة، ذكره ابن عطية. قلت: واختلف في أسمائهم، فقال الغزنوي: وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع وأسلم ودسما وذهيم وذعما وذعيم وقتال وصداق. ابن إسحاق: رأسهم قدار بن سالف ومصدع ابن مهرع، فاتبعهم سبعة، هم بلع بن ميلع ودعير بن غنم وذؤاب بن مهرج وأربعة لم تعرف أسماؤهم. وذكر الزمخشري أسماءهم عن وهب بن منبه: الهذيل بن عبد رب، غنم بن غنم، رئاب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صفى، قدار بن سالف، وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح، وكانوا من أبناء أشرافهم. السهيلي: ذكر النقاش التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وسماهم بأسمائهم، وذلك لا ينضبط برواية، غير أنى أذكره على وجه الاجتهاد والتخمين، ولكن نذكره على ما وجدناه في كتاب محمد بن حبيب، وهم: مصدع بن دهر. ويقال دهم، وقدار بن سالف، وهريم وصواب ورئاب وداب ودعما وهرما ودعين بن عمير. قلت: وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن ابن عباس فقال: هم دعما ودعيم وهرما وهريم وداب وصواب ورئاب ومسطح وقدار، وكانوا بأرض الحجر وهى أرض الشام. قوله تعالى: {قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} يجوز أن يكون {تَقاسَمُوا} فعلا مستقبلا وهو أمر، أي قال بعضهم لبعض احلفوا. ويجوز أن يكون ماضيا في معنى الحال كأنه قال: قالوا متقاسمين بالله، ودليل هذا التأويل قراءة عبد الله: {يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله} وليس فيها {قالُوا}. {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} قراءة العامة بالنون فيهما واختاره أبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي: بالتاء فيهما، وضم التاء واللام على الخطاب أي أنهم تخاطبوا بذلك، واختاره أبو عبيد. وقرأ مجاهد وحميد بالياء فيهما، وضم الياء واللام على الخبر. والبيات مباغتة العدو ليلا. ومعنى {لِوَلِيِّهِ} أي لرهط صالح الذي له ولاية الدم. {ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ما حضرنا، ولا ندري من قتله وقتل أهله. {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} في إنكارنا لقتله. والمهلك بمعنى الا هلاك، ويجوز أن يكون الموضع. وقرأ عاصم والسلمى بفتح الميم واللام أي الهلاك، يقال: ضرب يضرب مضربا أي ضربا. وقرأ المفضل وأبو بكر: بفتح الميم وجر اللام فيكون اسم المكان كالمجلس لموضع الجلوس، ويجوز أن يكون مصدرا، كقوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعكم. .تفسير الآيات (50- 53): {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)}{وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} مكرهم ما روى أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة، وقد أخبرهم صالح بمجيء العذاب، اتفقوا وتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا ويقتلوه واهلة المختصين به، قالوا: فإذا كان كاذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحق، وإن كان صادقا كنا عجلناه قبلنا، وشفينا نفوسنا، قاله مجاهد وغيره. قال ابن عباس: أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة، فامتلأت بهم دار صالح، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فقتلهم الملائكة رضخا بالحجارة فيرون الحجارة ولا يرون من يرميها.وقال قتادة: خرجوا مسرعين إلى صالح، فسلط عليهم ملك بيده صخرة فقتلهم.وقال السدى: نزلوا على جرف من الأرض، فانهار بهم فأهلكهم الله تحته.وقيل: اختفوا في غار قريب من دار صالح، فانحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا، فهذا ما كان من مكرهم. ومكر الله مجازاتهم على ذلك. {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أي بالصيحة التي أهلكتهم. وقد قيل: إن هلاك الكل كان بصيحة جبريل. والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد، ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة. وكان الأعمش والحسن وابن أبى إسحاق وعاصم وحمزة والكسائي يقرءون: {أَنَّا} بالفتح، وقال ابن الأنباري: فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} لأن {أَنَّا دَمَّرْناهُمْ} خبر كان. ويجوز أن تجعلها في موضع رفع على الاتباع للعاقبة. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب من قول الفراء، وخفض من قول الكسائي على معنى: بأنا دمرناهم ولأنا دمرناهم. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب على الاتباع لموضع {كَيْفَ} فمن هذه المذاهب لا يحسن الوقف على {مَكْرِهِمْ}. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {إنا دمرناهم} بكسر الالف على الاستئناف، فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على {مَكْرِهِمْ}. قال النحاس: ويجوز أن تنصب {عاقِبَةُ} على خبر {كانَ} ويكون {إنا} في موضع رفع على أنها اسم {كانَ}. ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة، والتقدير: هي إنا دمرناهم، قال أبو حاتم: وفي حرف أبى {أن دمرناهم} تصديقا لفتحها.قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا} قراءة العامة بالنصب على الحال عند الفراء والنحاس، أي خالية عن أهلها خرابا ليس بها ساكن.وقال الكسائي وأبو عبيدة: {خاوية} نصب على القطع، مجازه: فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الالف واللام نصب على الحال، كقوله: {وَلَهُ الدِّينُ واصِباً}. وقرأ عيسى بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري: بالرفع على أنها خبر عن {تلك} و{بُيُوتُهُمْ} بدل من {تلك}. ويجوز أن تكون {بُيُوتُهُمْ} عطف بيان و{خاوِيَةً} خبر عن {تلك}. ويجوز أن يكون رفع {خاوِيَةً} على أنها خبر ابتداء محذوف، أي هي خاوية، أو بدل من {بُيُوتُهُمْ} لان النكرة تبدل من المعرفة. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} بصالح {وَكانُوا يَتَّقُونَ} الله ويخافون عذابه. قيل: آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل. والباقون خرج بأبدانهم- في قول مقاتل وغيره- خراج مثل الحمص، وكان في اليوم الأول أحمر، ثم صار من الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود. وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، وهلاكهم يوم الأحد. قال مقاتل: فقعت تلك الخراجات، وصاح جبريل بهم خلال ذلك صيحة فخمدوا، وكان ذلك ضحوة. وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح، فسميت حضرموت. قال الضحاك: ثم بنى الاربعة الآلاف مدينة يقال لها حاضورا، على ما تقدم بيانه في قصة أصحاب الرس..تفسير الآيات (54- 61): {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)}قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} أي وأرسلنا لوطا، أو اذكر لوطا. {إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} وهم أهل سدوم.وقال لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} الفعلة القبيحة الشنيعة. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أنها فاحشة، وذلك أعظم لذنوبكم.وقيل: يأتي بعضكم بعضا وأنتم تنظرون إليه. وكانوا لا يستترون عتوا منهم وتمردا. {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ} أعاد ذكرها لفرط قبحها وشنعتها. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} إما أمر التحريم أو العقوبة. واختيار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من {أإنكم} فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها، لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام. قوله تعالى: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي عن أدبار الرجال. يقولون ذلك استهزاء منهم، قاله مجاهد.وقال قتادة: عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء. {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ} وقرأ عاصم: {قدرنا} مخففا والمعنى واحد. يقال قد قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدرته. {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} أي من أنذر فلم يقبل الإنذار. وقد مضى بيان هذا في الأعراف وهود.قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} قال الفراء قال أهل المعاني: قيل للوط {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على هلاكهم. وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا وقالوا: هو مخاطبة لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي قل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية. قال النحاس: وهذا أولى، لان القرآن منزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره.وقيل: المعنى، أي {قُلِ} يا محمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} يعني أمته عليه السلام. قال الكلبي: اصطفاهم الله بمعرفته وطاعته.وقال ابن عباس وسفيان: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وقيل: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفية تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني، وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. قوله تعالى: {الَّذِينَ اصْطَفى} اختار، أي لرسالته وهم الأنبياء عليهم السلام، دليله قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}. {آللَّهُ خَيْرٌ} وأجاز أبو حاتم {أألله خير} بهمزتين. النحاس: ولا نعلم أحدا تابعه على ذلك، لان هذه المدة إنما جئ بها فرقا بين الاستفهام والخبر، وهذه ألف التوقيف، و{خَيْرٌ} هاهنا ليس بمعنى أفضل منك، وإنما هو مثل قول الشاعر: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فالمعنى فالذي فيه الشر منكما للذي فيه الخير الفداء. ولا يجوز أن يكون بمعنى من لأنك إذا قلت: فلان شر من فلان ففي كل واحد منهما شر، وقيل المعنى: الخير في هذا أم في هذا الذي تشركونه في العبادة! وحكى سيبويه: السعادة أحب إليك أم الشقاء، وهو يعلم أن السعادة أحب إليه.وقيل: هو على بابه من التفضيل، والمعنى: آلله خير أم ما تشركون، أي أثوابه خير أم عقاب ما تشركون.وقيل: قال لهم ذلك، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خير فخاطبهم الله عز وجل على اعتقادهم.وقيل: اللفظ لفظ الاستفهام ومعناه الخبر. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب: {يُشْرِكُونَ} بياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب، وهو اختيار أبى عبيد وأبى حاتم، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ هذه الآية يقول: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم». قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} قال أبو حاتم: تقديره، آلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض، وقد تقدم. ومعناه: قدر على خلقهن.وقيل: المعنى، أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والأرض؟. فهو مردود على ما قبله من المعنى، وفية معنى التوبيخ لهم، والتنبيه على قدرة الله عز وجل وعجز آلهتهم. {فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ} الحديقة البستان الذي عليه حائط. والبهجة المنظر الحسن. قال الفراء: الحديقة البستان المحظر عليه حائط، وإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة.وقال قتادة وعكرمة: الحدائق النخل ذات بهجة، والبهجة الزينة والحسن، يبهج به من رآه. {ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} {ما} للنفي. ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا، أي ما كان للبشر، ولا يتهيأ لهم تحت قدرتهم، أن ينبتوا شجرها، إذ هم عجزة عن مثلها، لان ذلك إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. قلت: وقد يستدل من هذا على منع تصوير شيء سواء كان له روح أم لم يكن، وهو قول مجاهد. ويعضده قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة» رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة، قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «قال الله عز وجل» فذكره، فعم بالذم والتهديد والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع هذا واضح. وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز هو والاكتساب به. وقد قال ابن عباس للذي سأل أن يصنع الصور: إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له خرجه مسلم أيضا. والمنع أولى والله أعلم لما ذكرنا. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سبأ إن شاء الله تعالى ثم قال على جهة التوبيخ: {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ} أي هل معبود مع الله يعينه على ذلك. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} بالله غيره.وقيل: {يَعْدِلُونَ} عن الحق والقصد، أي يكفرون.وقيل: {إِلهٌ} مرفوع ب {مَعَ} تقديره إمع الله ويلكم إله. والوقف على {مَعَ اللَّهِ} حسن. قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً} أي مستقرا. {وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً} أي وسطها مثل {وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً}. {وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ} يعني جبالا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة. {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً} مانعا من قدرته لئلا يختلط الأجاج بالعذب.وقال ابن عباس: سلطانا من قدرته فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يغير هذا. والحجز المنع. {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ} أي إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غيره فلم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يعني كأنهم يجهلون الله فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية.
|