الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة صلى الصبح بعد طلوع الشمس أيصلى ركعتي الفجر: قال محمد بن رشد: قد روي في بعض الآثار أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاهما، وفي ذلك دليل على أن الصلاة المنسية وإن كان وقتها حين يذكرها فليس بوقت مضيق لا يجوز تأخيرها عنه بحال، كغروب الشمس للعصر أو طلوعها للصبح، ألا ترى أنهم قالوا فيمن ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو مع الإمام في صلاة أنه يتمادى معه ولا يقطع، وكذلك المنفرد عند ابن حبيب لا يقطع وإن لم يركع؛ إذ لا يستدرك بالقطع ما قد فاته من وقت التي ذكرها، وما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الركعتين قبل الصبح، احتج الشافعي لما ذهب إليه أن من ذكر صلاة وهو في وقت صلاة يبدأ بالتي حضر وقتها ولم يثبت ذلك عند مالك رَحِمَهُ اللَّهُ فقال: ما سمعت، ولو ثبت لاحتمل أن يفرق بين المسألتين بأن ركعتي الفجر تفوت إن بدأ بالصبح؛ إذ لا تصلى بعد صلاة الصبح، ولا تفوت الصلاة التي حضرها وقتها بالبداية بالفائتة؛ لأنه تصلى بعدها ولو خرج وقتها. .مسألة القوم يأتون بالمراوح في المسجد يتروحون بها: قال محمد بن رشد: وجه الكراهية في ذلك بين؛ لأن المراوح اتخذت للترفه، والمساجد وضعت للتعبد، فلا ينبغي أن يعدل بالمساجد عما وضعت له. وقد تقدمت هذه المسألة في رسم شك من سماع ابن القاسم. .مسألة ركعتي الفجر والوتر أسنة: قال محمد بن رشد: أما الوتر فلا اختلاف عندنا في أنه سنة، وذهب أهل العراق إلى أنه واجب، وأما ركعتا الفجر فقيل: إنهما من الرغائب، وهو قول مالك في رواية أشهب هذه عنه، وقول أصبغ في كتاب المحاربين والمرتدين، وقيل: إنهما من السنن وقد مضت هذه المسألة والتكلم عليها في رسم القبائل من سماع ابن القاسم. .مسألة يدخل مع الناس في قيام رمضان وقد سبقوه بركعة: قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول عليها في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة القول فيها. .مسألة صلى الظهر في بيته ثم أتى المسجد فوجد الناس جلوسا: قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السنة إنما جاءت فيمن صلى وحده أن يعيد في جماعة، فإذا لم يدرك من صلاة الجماعة ركعة ودخل معهم، فحكمه حكم المنفرد إذا لم يدرك من الصلاة ما يدخل به في حكم الإمام، وبالله التوفيق. .مسألة الرجل ينسى الاستنجاء بالماء حتى يصلي: قال محمد بن رشد: يريد وقد استنجى بالحجارة أو لم يتعلق بمخرجه شيء من الأذى، وأما لو ترك الاستنجاء بالحجارة والماء وقد تعلق بمخرجه شيء من الأذى لكان عليه أن يعيد في الوقت، وقد مضى هذا المعنى في سماع أبي زيد من كتاب الوضوء، وحيث ما تكررت المسألة من الكتاب المذكور. وفي قوله: أرجو أن لا تكون عليه إعادة نظر؛ لأنه إذا لم يتعلق بمخرجه أذى فلا وجه لتعلق ترك الإعادة بالرجاء، وإن كان قد تعلق به أذى ولم يستنج بالأحجار فلا وجه لتخفيف ترك الإعادة، فإن كان تكلم على هذا فلعله أراد ألا تكون عليه إعادة في الوقت وبعده، ويحتمل أن يكون تكلم على أنه استنجى بالحجارة فقال: أحب إلي أن لا تكون عليه إعادة من أجل أن الماء أطهر وأطيب، وقد قال ابن حبيب: إن الاستنجاء لا يباح اليوم إلا من ضرورة؛ لأنه أمر قد ترك وجرى العمل بخلافه. .مسألة الإمام يؤم الناس فإذا فرغ من صلاته تنفل في مكانه: قال محمد بن رشد: وسع مالك للإمام في هذه الرواية أن يركع في مكانه وأن ينحرف عنه شيئا ولا يقوم، وذلك كله خلاف ما في المدونة؛ لأنه كره في الصلاة الأول منها للإمام أن يتنفل في موضعه، وقال: على ذلك أدركت الناس.؟ وكره في الصلاة الثاني منها أن يثبت في موضعه وإن انحرف عنه، وقال: فليقم ولا يقعد إلا أن يكون إماما في السفر أو في فنائه ليس بإمام جماعة، فإن شاء تنحى وإن شاء أقام، وكره ذلك لوجهين أحدهما: مخالفة السلف، والثاني: ما يخشى في ذلك من التخليط على من خلفه؛ إذ قد يظن من يراه جالسا أنه لم يسلم بعد من صلاته، ومن رآه قائما متنفلا أنه إنما قام لإتمام شيء شك فيه من صلاته، والله أعلم، وبه التوفيق. .مسألة القريب من المسجد يجمع بين الصلاتين للمطر مثل البعيد: قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الجمع إذا جاز من أجل المشقة التي تدخل على من بعد دخل معهم من قرب؛ إذ لا يصح لهم أن ينفردوا دونهم فيصلوا كل صلاة في وقتها جماعة؛ لما في ذلك من تفريق الجماعة، ولا أن يتركوا الصلاة في جماعة؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد». .مسألة خرج ليصلي في المسجد النبوي فلقي الناس منصرفين من الصلاة: قال محمد بن رشد: قوله: بل يصلي في المسجد، يريد بل يذهب إليه فيصلي فيه منفردا ولا يصلي دونه في جماعة، وذلك مثل قوله في المدونة؛ لأنه رأى الصلاة في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منفردا أفضل من الصلاة خارجا عنه في جماعة؛ لما جاء من الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام. وفي بعض الروايات: بل يصلي في الجماعة، يريد خارج المسجد ولا يذهب إلى المسجد؛ إذ قد فاتته الصلاة فيه في جماعة، فرأى في هذه الرواية الصلاة في الجماعة أفضل من الصلاة في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذا، خلاف ما في المدونة. ووجه ذلك أنه حمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد» على أنه أراد بذلك الصلاة في الجماعة، فكأنه قال: صلاة في مسجدي هذا في جماعة خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، بدليل أن المساجد إنما اتخذت لإقامة الصلوات المكتوبات فيها بالجماعة، فخرج الحديث على ذلك، ولم تدخل فيه صلاة الفذ كما لم تدخل فيه صلاة النافلة، ويكون على هذا معنى قوله: «أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة»، يريد بذلك إلا المكتوبة في الجماعة، وذهب ابن لبابة إلى أن ذلك ليس باختلاف من القول، قال: لأنه تكلم في المدونة على من دخل المسجد، وفي هذه الرواية على من لم يدخله، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الصلاة إن كانت في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذا أفضل من الصلاة خارجا عنه في جماعة، فالأولى به أن يمضي إليه رغبة في الفضيلة، وإن كانت الصلاة في الجماعة أفضل من الصلاة في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذا فالأولى به إذا فاتته الجماعة فيه أن يخرج منه ويصلي في جماعة رغبة في الفضيلة أيضا، وهذا بين. ووقع في النسخ: بل يصلي في المسجد بالجماعة، وذلك خطأ في الرواية لا وجه له، والله أعلم، وبه التوفيق. .مسألة دخل المسجد فوجد الناس ركوعا أيركع معهم أم يتقدم إلى الفرج: قال محمد بن رشد: تفرقته بين أن يكونوا قليلا أو كثيرا استحسان، ولو ركع معهم وهم عدد يسير لصحت صلاته باتفاق، وإنما الخلاف إذا لم يكن معه أحد سواه. وقد مضى هذا المعنى مستوفى في رسم شك في طوافه ورسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق. .مسألة الغسل للعيدين قبل الفجر: قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في آخر هذا الرسم وفي رسم صلاة العيدين، وزاد فيها: من الناس من يغدو قبل الفجر، فالمعنى فيها أنه خفف لمن غدا بعد الفجر أن يغتسل قبل الفجر ولم ير من شرط صحة الغسل للعيدين أن يتصل بالغدو لها؛ لكونه مستحبا فيها غير مسنون، وفي المدونة من رواية عيسى عن ابن القاسم عن مالك أنه إن رجع إلى منزله بعد صلاة الصبح، فلا يجزيه ذلك الغسل قياسا على غسل الجمعة. .مسألة المسجد الذي ذكر الله تعالى أنه أسس على التقوى: قال محمد بن رشد: هذا الذي ذهب إليه مالك رَحِمَهُ اللَّهُ من أن المسجد الذي ذكر الله تعالى أنه أسس على التقوى هو مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، روي عن أبي سعيد الخدري «أن رجلا من بني خدرة ورجلا من بني عمرو بن عوف امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال العوفي: هو مسجدنا بقباء، وقال الخدري: هو مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرجا فأتيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألاه عن ذلك، فقال: هو هذا المسجد» مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي ذلك خير كثير، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه مسجد قباء مسجد سعد بن خيثمة، واستدلوا على ذلك ببنيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه، روي عن عائشة أنها قالت: «أول من حمل حجرا لقبلة مسجد قباء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم حمل أبو بكر آخر، ثم حمل عمر آخر، ثم حمل عثمان آخر، فقلت: يا رسول الله ألا ترى هؤلاء يتبعونك؟ فقال: أما إنهم أمراء الخلافة بعدي». وهذا لا دليل فيه؛ لأنه بنى مسجده أيضا، فلم يختص بنيان مسجد قباء برسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ دون مسجده، واستدلوا أيضا بقول الله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، يريد الأنصار بما روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما نزلت: يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم، قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء»، وفي بعض الآثار: «ونستنجي بالأحجار ثم بالماء، فقال: هو ذاك فعليكموه». وهذا لا دليل فيه أيضا؛ لأن أولئك الرجال قد كانوا في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم من الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فصح ما ذهب إليه مالك من أن المسجد الذي ذكر الله تعالى أنه أسس على التقوى هو مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ما سواه من المساجد، واستدلال مالك لمذهبه بقول عمر لم يستجز نقض أسسه وتبديل قبلته إلا بما سمع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك ورآه قد أراد أن يفعله، وبالله التوفيق. .مسألة الاعتماد على اليدين في القيام من الصلاة: قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته. .مسألة دخول النصارى المسجد النبوي: قال محمد بن رشد: لم ينكر مالك رَحِمَهُ اللَّهُ بنيان النصارى في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستحث أن يحازوا إلى موضع منه وأن يدخلوا مما يليه ولا يخترقوا ما لا عمل لهم فيه، وإنما خفف ذلك ووسع فيه وإن كان مذهبه أن يمنعوا من دخول المساجد؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، الآية، وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» وهم أنجاس لا يتطهرون، مراعاة لاختلاف أهل العلم في ذلك، إذ منهم من أباح أن يدخلوا جميع المساجد إلا المسجد الحرام؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]، ولما جاء في الصحيح من «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خيلا قبل نجد، فأسروا ثمامة بن أثال، فربطه بسارية من سواري المسجد» ومنهم من أباح أن يدخلوا جميع المساجد والمسجد الحرام وقال: إن معنى الآية ما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناديه أن ينادي به في مواسم الحج من أن لا يحج بعد العام مشرك بدليل توقيت ذلك العام، إذ لا يختص دخول البيت بوقت دون وقت. والفرق عند هؤلاء بين النصراني والجنب- والله أعلم- هو أن النصراني غير متعبد عندهم بشرائع الإسلام. وكره مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن يكشف سقف قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأى من صونه أن يكون مغطى، ولم ير أن يكتفى في ذلك بالخيش، فكأنه ذهب إلى أن يغطى كتغطية البيوت المسكونة، ولقد أخبرني من أثق به أنه اليوم مكشوف الأعلى لا سقف له تحت سقف المسجد، وبالله التوفيق. .مسألة يكون لهم مسجد يصلون فيه فيريد رجل أن يبني قريبا منه مسجدا: وسئل سحنون عن القرية يكون فيها مسجد، فيريد قوم آخرون أن يبنوا فيها مسجدا آخر هل لهم ذلك؟ فقال: إن كانت القرية تحتمل مسجدين لكثرة أهلها ويكون فيها من يعمر المسجدين جميعا الأول والآخر فلا بأس به، وإن كان أهلها قليلا يخاف أن يعطل المسجد الأول فلا يوجد فيها من يعمره فليس لهم ذلك، وهؤلاء قوم يريدون أن يبنوا على وجه الضرر. قال محمد بن رشد: وهذا كما قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن من بنى مسجدا بقرب مسجد آخر ليضار به أهل المسجد الأول ويفرق به جماعتهم فهو من أعظم الضرر؛ لأن الإضرار فيما يتعلق بالدين أشد منه فيما يتعلق بالنفس والمال، لاسيما في المسجد المتخذ للصلاة التي هي عماد الدين، وقد أنزل الله تعالى في ذلك ما أنزل من قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة: 107]، إلى قوله: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110]، وقوله: إنما القول أبدا في الآخر من المسجدين صحيح؛ لأنه هو الذي يجب أن ينظر فيه، فإن ثبت على بانيه أنه قصد الإضرار وتفريق الجماعة لا وجها من وجوه البر وجب أن يحرق ويهدم ويترك مطرحا للزبول، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمسجد الضرار، وإن ثبت أن إقراره مضر بأهل المسجد الأول ولم يثبت على بانيه أنه قصد إلى ذلك وادعى أنه أراد به القربة، لم يهدم وترك معطلا لا يصلى فيه إلا أن يحتاج إلى الصلاة فيه بأن يكثر أهل الموضع أو ينهدم المسجد الأول، وبالله التوفيق. .مسألة المسجد يجعل فيه المنار فإذا صعد المؤذن فيها عاين ما في الدور: قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصل مذهب مالك في أن الاطلاع من الضرر البين الذي يجب القضاء بقطعه، وكذلك يجب عندي على مذهب من يرى من أصحاب مالك أن من أحدث في ملكه إطلاعا على جاره لا يقضى عليه بسده، ويقال لجاره: استر على نفسك في ملكك. والفرق بين الموضعين على مذهبهم أن المنار ليس بملك للمؤذن، وإنما يصعد فيه ابتغاء الخير والثواب، والاطلاع على حرم الناس محظور، ولا يحل الدخول في نافلة من الخير بمعصية، وسواء كانت الدور على القرب أو البعد إلا أن يكون البعد الكثير الذي لا يستبين معه الأشخاص والهيئات ولا الذكران من الإناث، فلا يعتبر الاطلاع معه، وقد كان بعض الشيوخ يستدل على هذا بقول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «إن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس». .مسألة المساجد التي تكون بالمدينة أيجمع فيها بين الصلاتين في الليلة المطيرة: قال محمد بن رشد: ضعف الجمع بالمدينة فيما سوى مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المساجد، ولم يرها في الجمع كمساجد سائر الأمصار. ووجه الفرق في ذلك بين مساجد المدينة ومساجد الأمصار أن لمسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة فضل متيقن معلوم على سائر المساجد بالمدينة، وليس للمسجد الجامع في سائر الأمصار فضل على سائر المساجد بها. ووجه ثان وهو الاتباع، إذ لم يرو أنه جمع في المدينة في الزمن الأول إلا في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتضعيفه في هذه الرواية للجمع فيما سوى مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينحو إلى رواية زياد عنه وهي قوله: وأظن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لأن المسجد لم يكن يحبس مطرا ولم يكن حول المسجد عمارة، فلو ترك الناس الجمع اليوم لم أره خطأ. .مسألة أحرم بالصلاة خلف الإمام فكبر ورفع يديه حذو صدره: قال محمد بن رشد: رفع مالك يديه في افتتاح الصلاة نحو صدره لا يبلغ بهما منكبيه هو نحو قوله في المدونة: إنه يرفعهما في ذلك شيئا خفيفا، وله في المختصر أنه يرفعهما حذو منكبيه مثل ما في حديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومثله في كتاب ابن شعبان، قال ابن وهب: صليت مع مالك في بيته فرأيته يرفع يديه في أول ركعة، وكان إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه حذو منكبيه، وكان يقول: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» وقال: أكره أن أحمل الجاهل على ذلك فيقول: إنه من فرض الصلاة، وقد مضى القول في رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه في رسم يتخذ الخرقة لفرجه، من سماع ابن القاسم. وأما نهوضه من السجود إلى القيام دون أن يرجع إلى الجلوس في الركعة الأولى والثالثة، فهو معلوم من مذهبه وعليه العلماء، وذهب الشافعي إلى أنه يرجع إلى الجلوس على ما روي عن مالك بن الحويرث أنه قال: «رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا»، والذي عليه الجمهور هو الصحيح؛ لأن ذلك قد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتصل به العمل، فدل على أنه كان آخر الأمرين من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحتمل أن يكون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما فعل في صلاته ما حكاه عنه مالك بن الحويرث لعلة كانت به حينئذ؛ لأنه إنما أقام عنده أياما ثم رجع إلى أهله، لا لأن ذلك من سنة الصلاة. والنظر يوجب أيضا أن لا يكون من سننها؛ إذ لو كان من سننها لكان له تكبير كالتكبير عند سائر أركان الصلاة. وأما تسليمه عن يمينه وعن يساره ثم على الإمام فهو كان الأول من قوليه، فقد قال ابن القاسم في المدونة: إنه كان يأخذ بذلك ثم تركه، وقد مضى هذا المعنى في آخر رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم مستوفى، وأما قوله: يقول السلام عليكم، فهو مثل قوله في المدونة: إنه لا يجزئ من السلام من الصلاة إلا السلام عليكم، ووقع هاهنا في بعض الروايات يقول: سلام عليكم سلام عليكم، بغير الألف واللام، وذلك خلاف لما في المدونة. وهذا الخلاف إنما هو في السلام الذي يتحلل به من الصلاة، وأما في الرد على الإمام فهو خفيف؛ إذ قد وسع في الثاني من صلاة المدونة أن يقول فيه: عليك السلام، وبالله التوفيق. .مسألة صلاة العشاء في آخر وقتها وترك الحديث بعدها: قال الإمام: يريد أن ينام عنها إلى آخر وقتها، لا أن ينام عنها حتى يخرج وقتها جملة، فرأى صلاة العشاء في آخر وقتها وترك الحديث بعدها أحب إليه من صلاتها في أول وقتها والتحدث بعدها، وذلك صواب؛ لأن تحدثه محصي عليه منه ما يكتبه صاحب اليمين ومنه ما يكتبه صاحب الشمال، فالتوقي مما يخشى أن يدخل عليه في ذلك من الإثم آكد عليه من الرغبة في زيادة فضيلة أول الوقت. .مسألة إمام سها في الركعة الثالثة فجلس فيها: زعم يحيى بن سعيد أن أنس بن مالك صلى بهم في سفر، فنأى للقيام في الركعتين، فسبح به قبل أن يعتدل قائما، فجلس فسجد سجدتي السهو، فقيل لمالك: قبل السلام أم بعده؟ فقال: لم يذكر ذلك يحيى، وأنا أراها بعد السلام، قيل: والذي سألتك عنه من أنه لما ذهب ليجلس في الثالثة رأى من خلفه، قد قاموا فقام، فقال: نعم يسجد في ذلك سجدتين بعد السلام، وذلك يختلف عندي، أما الرجل الذي جلس مجمعا على الجلوس ذلك أراد، فهذا الذي أرى عليه سجدتي السهو، وأما الرجل الشاك الذي إنما يتذكر في جلوسه يريد أن ينظر إلى ما يصنع الناس، فلا أرى على هذا سهوا. قال محمد بن رشد: أوجب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ سجود السهو على من اطمأن جالسا ساهيا في الركعة الأولى أو الثالثة، ولم يراع قول من يرى ذلك من سنة الصلاة؛ لضعف الاختلاف في ذلك عنده، وقد بينا قبل هذا وجهه، وقال: الجلوس في موضع القيام على القيام في موضع الجلوس، فأوجب في ذلك السجود على ما حكي عن أنس بن مالك، وإن كان قبل أن يعتدل قائما؛ لأن السهو في قيامه وإن لم يعتدل قائما أكثر من السهو في جلوسه إذا لم يطمئن جالسا، مع ما في ذلك من الاختلاف. وقد اختلف فيمن قام في ركعتين من صلاة رباعية على قولين: أحدهما أنه يرجع ما لم يعتدل قائما وإن فارق الأرض على ما فعله أنس، ومثله في آخر هذا الرسم، وقاله ابن حبيب، والثاني قول ابن القاسم: إنه يرجع ما لم يفارق الأرض، ولا اختلاف أنه لا يرجع إذا اعتدل قائما، وإنما يختلف فيما يجب عليه إن رجع جاهلا، فقيل: إنه يعيد الصلاة، وهو قول عيسى بن دينار ومحمد بن عبد الحكم، حكى ذلك عنهما ابن الجلاب في مختصره، وهو قول ابن سحنون أيضا في النوادر، وقيل: إنه يسجد سجدتي السهو بعد السلام، وهو قول مالك في آخر هذا الرسم، وقيل: إنه يسجد قبل السلام؛ لأنه زاد الجلوس بعد أن نقصه، فاجتمع عليه نقصان وزيادة، وهو قول أشهب وعلي بن زياد، وقد روي عن مالك من رواية ابن وهب وابن أبي أويس أنه راعى الاختلاف في ذلك، أعني في الذي جلس في وتر من صلاته ساهيا، فلم يوجب فيه سجود السهو إلا أن يكون جلوسه قدر ما يتشهد فيه، وتابعه على ذلك ابن أبي حازم، وقاله ابن كنانة وابن القاسم في المدنية. وأما الإمام الذي جلس شاكا غير مجمع على الجلوس إلا لينظر ما يصنع الناس، فبين أنه لا يسجد لما في أصل المسألة من الاختلاف.
|